الزمــــــــن
إن دقات ساعة الحائط تقدم لك زمنا مزيفا..أبحث عن زمنك الحقيقى فى دقات قلبك..ونبض إحساسك..
كل شئ فى الدنيا يجرى ويلهث
الشمس تشرق وتغرب..
والنجوم تدور فى أفلاكها..
والأرض تهب من الجهات الأربع..
والسيول تنهمر من أعلى الجبال..
واليانبيع تنفجر من باطن الأر ض..
والنبات والحيوان والانسان تعيش كلها فى حركة دائبة..
وذرات الجماد تهرول فى مدارتها..
وظاهرات الطبيعة كلها عبارة عن حركة ..الكهرباء حركة..والصوت حركة..والضوء حركة ..والحرارة حركة..والكون كله يتمدد مثل فقاعه من الصابون وينفجر من الفضاء..
المادة فى حالة انتشار وذبذبة وحركة ولهذا يقول اينشتاين إن لها بعد رابعا غير الأبعاد الثلاثة المعروفة..هذا البعد هو الزمن ..أو الزمن الملتصق بالمكان ويسمية الزمكان..
المادة مثل حيوان له طول وعرض وسمك وعمر ..والعمر يدخل فى تركبيها ..كما يدخل فى تركيب الحيوان ..الزمن إحدى الفتلات التى يتألف منها نسيج الكائن المادة.
وهو إيضا إحدى الفتلات منها نسيج الكائن الحى.
ولكن ما الزمن.
هل هو دقات ساعة الجامعة..والنتيجة المعلقة بالحائط والتقويم الفلكى بالفصول والأيام ..
إننا مازلنا نذكر كلمات المراقب ونحن نؤدى الامتحان فى آخر كل سنة..
باقى من الزمن نصف ساعة..
نذكر الرجفة التى كنا نحس بها ونحن ننظر إلى ورقة الاجابة
وإلى ورقة الأسئلة ,,وإلى الساعة فى يد المراقب ..وإلى شفتيه وهما تنطقان..
باقى من الزمن نصف ساعة..
كأنه ينطق حكم بالأعدام .أو حكما بالأفراج..
كان النصف ساعة عند بعضنا قصيراً جدا ..أقصر من نصف دقيقة لأن ورقة الأجابة لازلت بيضاء أمامه ..ولأنه مازال يبحث ..ويهرش فى رأسه..
وكان عند بعضنا طويلا مملا ..أطول من نصف يوم لأنه قد انتهى من الأجابة..
كانت الساعة فى يد المراقب تشير إلى زمن واحد ..ولكن كلا منا كان له زمن خاص به..
كان معيار الدقائق عند كل منا يختلف عن الآخر..
وهذا هو مفتاح اللغز..
إن الزمن ليس شيئا منعزلا عنا مثل الشجرة والمحبرة والكتاب..ليس زمبلكا تحتويه ساعة اليد ,,ولكنه شئ يلابسنا
لكل منا زمن خاص به.
عواطفنا واهتماماتنا هى الساعة الحقيقية التى تضبط الزمن وتطيله أو تقصره
أفراحنا تجعل ساعاتنا لحظات.
وآلامنا تجعل لحظاتنا طويلة ومريرة ثقيلة مثل السنين وأطول ..
إحساسنا بالسرعة والبطء ليس مصدرة ساعة الحائط ولكن مصدرة الحقيقى الشعور داخلنا..
إن ساعة الحائط تقدم لنا زمنا مزيفا ...ومثلها التقويم الفلكى الذى يقسم حياتنا إلى أيام وشهور وفصول..
والتاريخ الذى يقسم أعمارنا إلى ماضى وحاضر ومستقبل ..لأن حياتنا غير قابلة للقسمة ..ولأن الزمن فى داخلنا غير قابل للقسمة أيضا..
إن حياتنا لحظة طويلة مستمرة يصاحبها إحساس مستمر بالحضور ونحن نتعرف على الماضى من خلال الحاضر ..فحينما نعيش فى إحساس بالتذكر نسمية ماضيا ..وحينما نعيش فى إحساس بالتوقع نسمية مستقبلا .ولكن كل هذه الأحساسات هى حاضر..
الفواصل بين الماضى والحاضر والمستقبل فواصل وهمية لأن اللحظات الثلاث يتداخل بعضها فى بعض كما يتداخل الليل والنهار عند الأفق...
والذى يقوم بتعيين اللحظة فى الشعور هو الانتباه.
الانتباه هو الذى يضع خطا تحت مشاعرنا وإحساساتنا فيخيل لنا أننا وقفنا لحظة والحقيقة أنه لا وقوف أبدا..وإنما نحن نعيش فى حالة تدفق داخلى مستمر أبدا ودائما..
والزمن الخارجى ..زمن الساعات والمنبهات زمن كاذب خداع لأنه يساوى بين اللحظات ويجعلها مجرد أرقام على مينا..
الساعة واحدة ..الساعة اتنين..الساعة تلاتة..مجرد حركات من العقرب ..وانتقال بضعة سنتيمترات على المينا ..أنه ليس زمانا ولكنه أوضاع مختلفة فى المكان ..أما الزمن الحقيقى فهو داخلنا ..وهو اضطراب دائم لا تتساوى فيه لحظة بأخرى ..لحظة صغيرة ولحظة كبيرة ..ولحظة تافهة.
وهو غير قابل للتكرار ..لأن كل لحظة تحتوى على الماضى كله ومعه علاوة من الحاضر ..وفى كل لحظة تضاف علاوة جديدة من التجربة والحياة فلا تعود الحياة قابلة لأى تكرار ..,إنما تعلو على الدوام مثل نهر جار يزداد فيه الماء بين لحظة وأخرى ولا يتشابه فيه الماء فى لحظتين متتاليتين.
إن العالم داخلنا يختلف كثيرا عن العالم خارجنا.
إن العالم خارجنا متعدد منقسم إلى أجزاء منفصلة متجاورة فى المكان ..يمكن أن نشاهد فيه وحدات متكررة..
والعالم داخلنا شئ آخر بالمرة..
إنه تدفق لا تتشابه فيه لحظة بأخرى ولا يتكرر فيه إحساس واحد مرتين..
ولا تتجاور لحظاتة وإنما تتابع ..وتتلاحق..وتداخل فى وحدة غير قابلة للقسمة هى حياتنا...
وبهذا يكون هناك زمانان..
زمن نراه من الخارج على هيئة شروق وغروب وعصر وظهر وساعات ودقائق..
وزمن آخر نشعر به من الداخل على شكل تدفق يتصف بالدوام والاستمرار والاتصال..
ونحن نرى الزمن الخارجى بالعقل وندركه بالتحليل والقياس والحساب ونعبر عنه بواسطة الأرقام..
وندرك الزمن الداخلى مباشرة وبدون واسطة ..على شكل مكاشفة داخلية لكياننا...
لذلك نقول على الزمن الداخلى إنه الزمن الحقيقى لأن الحقيقة تطالعنا فيه عارية بدون وساطة وبدون رموز...
وهذا نوع من الاحساس يشبه إحساسنا بالحركة ..حينما نحرك ذراعنا فنحس أننا نحركها إلى فوق بدون حاجة إلى أن نراها ..لأننا نحس بهذه الحركة من الداخل مباشرة بدون وساطة الرؤية..
بينما يحتاج الذى نشاهدة من الخارج ان يرى حركات ذراعنا بعينيه ويتبعها ويحللها بعقله ليقول إننا نحرك ذراعنا إلى فوق..
ومعرفتنا نحن أرقى من معرفتة لأننا نعاين الحقيقة مباشرة وبهذة المعرفة اكتشفنا الزمن ..زمننا الحقيقى..
ولكننا لا نعيش حياتنا كلها فى الزمن الحقيقى لأننا لا نعيش فى نفوسنا كل الوقت ..
وإنما نعيش فى مجتمع ..نخرج ونختلط بالناس ونتبادل المنفعة ونتعامل ونتكلم ونأخذ ونعطى..
ولهذا لا نجد مفرا من الخضوع للزمن الآخر ..زمن الساعات فنتقيد بالمواعيد ونرتبط بالأمكنة...
ونبحث عن الأشياء المشتركة بيننا لنتفاهم ..وفى أثناء بحثنا عن الأشياء المشتركة تضيع منا الأشياء الأصلية.
العرف والتقاليد والأفكار الجاهزة تطمس الأشياء المبتكرة فينا وتطمس الذات العميقة التى تحتوى على سرنا وحقيقتنا...
ونمضى فى زحام الناس وقد لبسنا لهم نفسنا مستعارة من التقاليد والعادات لنعجبهم..
وتتكون عندنا بمضى الزمن ذات اجتماعية تعيش بأفكار جاهزة وعادات وراثية ورغبات عامة لا شخصية ..
وهذه الذات سطحية ثرثارة تقضى وقتها فى التعازى والتهانى والمجاملات والمعايدات والسخافات وتنفق حياتها فى علاقات سطحية تشبه المواصلات المادية التى توصل من الباب إلى الباب ولا توصل من القلب إلى القلب.
هذه الذات التافهة هى غير الذات العميقة التى نغوص إليها فى ساعات وحدتنا ونكتشف فيها أنفسنا ونتعرف على وجوهنا الحقيقة..
إنها ذات جامدة مثل الجسد تحكمها الغرائز والضرورات الاجتماعية..وهى تشبه المرحاض النفسانى نفرز فيه كسلنا وضيقنا ومللنا ونقتل فيه وقتنا بانشغلات رخيصة تافهة مثل قزقزة اللب ولعب الطاولة ..ونحن نتأرجح فى حياتنا بين هذه السطحية وبين الذات العميقة ..نهبط مرة ونعلو مرة ..ونعيش فى زمن الساعات لفترة طويلة من يومنا فى وظائف وأعمال آلية روتينية..ونعيش فى لحظات قليلة متألقة فى داخلنا فى زمننا الحقيقى الجياش فنهتز بالنشوة ونشرق بالسعادة ونرتجف بالقلق ونمتلئ بالفضول واللذة ونعرف نفوسنا على حقيقتها وبكارتها...
ونحن نكتشف هذه النفوس البكر فى مغامرات قليلة..
نكتشفها لأول مرة فى مغامرة الحب حينما نعثر على المرأة التى تهز وجودنا..وتخترقنا ..وتخترق عادتنا وتفكيرنا وحياتنا وتقلبها رأس على عقب ..فتبدو أنها حياة جديدة عجيبة...
ونكتشفها لثانى مرة فى مغامرة الفن ..فى لحظة الالهام التى ينفتح فيها شعورنا على إدراك جديد وتصوير جديد للدنيا ..فنكتب أو نغنى أو نرسم أو نقول شعرا...
ونكتشفها لثالث مرة فى مغامرة التأمل وفى الشعور العميق بالتدين ..وفى لحظة الجلاء الفكرى والصوفى التى نضع يدنا فيها على حقيقة جديدة فينا أو فى الناس حولنا أو فى الدنيا..
ونكتشفها لرابع مرة فى المعمل ..فى لحظة الاختراع التى نعثر فيها على سر من أسرار الطبيعة يبهرنا ويدهشنا ويصدمنا .
كل هذه الاكتشافات تخرجنا من الزمن المبتذل المتكرر ..زمن الساعات ..وتنزل بنا إلى أعماقنا ..إلى زمننا الحقيقى حيث كل شئ جديد مبتكر ..مدهش ..جميل ..باعث لأقصى اللذة والفضول
د/مصطفى محمود